الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِهِمْ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَعَادَ وَصْفَهُمْ بِكَثْرَةِ سَمَاعِ الْكَذِبِ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ وَالتَّمْهِيدِ لِمَا بَعْدَهُ- كَمَا قَالُوا- وَالْإِعَادَةُ لِلتَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْمَعْنَى وَإِفَادَةِ اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، مِمَّا يَنْبَعِثُ عَنِ الْغَرِيزَةِ، وَيُعْرَفُ التَّأْثِيرُ وَالتَّأَثُّرُ بِهِ مِنَ الطَّبِيعَةِ، وَلَعَلَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْبَشَرِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ «اللَّامَ» فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّقْوِيَةِ يَنْتَفِي التَّكْرَارُ؛ إِذِ الْمَعْنَى هُنَاكَ: يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَجِدُوا مَجَالًا لِلْكَذِبِ، يُنَفِّرُونَ النَّاسَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهُمْ يَسْمَعُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ سَمَاعَ قَبُولٍ، فَهُمْ يَكْذِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَكْذِبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَقْبَلُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمْرُهُمْ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ شَرُّ الرَّذَائِلِ وَأَضَرُّ الْمَفَاسِدِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ، تَلُوذُ بِالْكَذِبِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَتَرَى أَنَّهَا تَدْرَأُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا مَا تَتَوَقَّعُ مِنْ ضُرٍّ.وَكَذَلِكَ يَفْشُو فِيهَا أَكْلُ السُّحْتِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ بِالْمُحَابَاةِ، وَتَأْلَفُ الدَّنَاءَةَ، وَتُؤْثِرُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ.فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّحْتَ بِالرِّشْوَةِ فِي الدِّينِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَعَلِيٌّ بِالرِّشْوَةِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْكُفْرُ، وَقَالَ عُمَرُ: بَابَانِ مِنَ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ؛ الرِّشَا فِي الْحُكْمِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ؛ فَأَفَادَ أَنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالرِّشْوَةِ الْمُطْلَقَةِ أَوِ الْمُقَيَّدَةِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ نُزُولِهَا فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، لَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْعَامُّ. وَقِيلَ: السُّحْتُ: الْحَرَامُ مُطْلَقًا، أَوِ الرِّبَا، أَوِ الْحَرَامُ الَّذِي فِيهِ عَارٌ وَدَنَاءَةٌ كَالرِّشْوَةِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الَّذِي اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَحَتَهُ، وَأَسْحَتَهُ بِمَعْنَى اسْتَأْصَلَهُ بِالْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} (20: 61). فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالسُّحْتِ مَا يُسْحِتُ الدِّينَ وَالشَّرَفَ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، أَوْ لِسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَثَرِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ: شِدَّةُ الْجُوعِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ: إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يَكَادُ يُرَى إِلَّا جَائِعًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَامَ، أَوِ الْكَسْبَ الدَّنِيءَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الشَّرَهُ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: {السُّحَتِ}، بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا مَعًا. لِسَانُ الْعَرَبِ: السُّحْتُ وَالسُّحُتُ: كُلُّ حَرَامٍ قَبِيحُ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: مَا خَبُثَ مِنَ الْمَكَاسِبِ وَحَرُمَ، فَلَزِمَ عَنْهُ الْعَارُ وَقَبِيحُ الذِّكْرِ، كَثَمَنِ الْكَلْبِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ. وَسَحَتَ الشَّيْءَ يَسْحَتُهُ، كَفَتَحَ يَفْتَحُ، قَشَرَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَسَحَتُّ الشَّحْمَ عَنِ اللَّحْمِ: قَشَرْتُهُ عَنْهُ مِثْلُ سَحَفْتُهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: سَحَتَ رَأْسَهُ سَحْتًا وَأَسْحَتَهُ: اسْتَأْصَلَهُ حَلْقًا. وَأَسْحَتَ مَالَهُ:اسْتَأْصَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالسَّحْتُ- بِالْفَتْحِ- شِدَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَرَجُلُ سُحْتٌ- بِالضَّمِّ- وَسَحِيتٌ وَمَسْحُوتٌ: رَغِيبٌ وَاسِعُ الْجَوْفِ، لَا يَشْبَعُ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنَ اللِّسَانِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى السُّحْتِ: إِزَالَةُ الْقِشْرِ عَنِ الْعُودِ بِالتَّدْرِيجِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَقُولُ: أَسْحَتُّ الشَّيْءَ، إِلَّا إِذَا اسْتَأْصَلَهُ بِالْقِشْرِ، وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ مَعْنَى عَدَمِ الشِّبَعِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَأَنَّ الْمَعِدَةَ لِسُرْعَةِ هَضْمِهَا تَسْتَأْصِلُ الطَّعَامَ. وَسُمِّيَ الْكَسْبُ الْخَسِيسُ وَالْحَرَامُ سُحْتًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَأْصِلُ الْمُرُوءَةَ أَوِ الدِّينَ، وَالرِّشْوَةُ تَسْتَأْصِلُ الثَّرْوَةَ، وَتُفْسِدُ أَمْرَ الْمُعَامَلَةِ، وَتَسْتَبْدِلُ الطَّمَعَ بِالْعِفَّةِ، وَكَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَذَّابِينَ أَكَّالِينَ لِلسُّحْتِ مِنَ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَسَائِسِ، كَدَأْبِ سَائِرِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا، وَقَدْ صَارَتْ حَالُهُمُ الْآنَ أَحْسَنَ مَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَعِيبُونَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ.وَمِنْ عَجَائِبَ غَفْلَةِ الْبَشَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَعِيبَكَ أَحَدُهُمْ بِنَقِيصَةٍ يَنْسِبُهَا إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِكَ الْغَابِرِينَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّكَ عَارٍ عَنْهَا، أَوْ مُتَّصِفٌ بِالْمَحْمَدَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِنَقِيصَةِ جَدِّكَ الَّتِي يَعِيبُكَ بِهَا!! فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَعُدُّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيهِمْ، وَكَثِيرًا مِنْ حُكَّامِهِمُ الشَّرْعِيِّينَ وَالسِّيَاسِيِّينَ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا، وَيَقْبَلُونَ الْكَذِبَ، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ؛ لِيَشْهَدُوا لَهُمْ زُورًا بِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَيُعْطُونَهُمْ مَا يُسَمُّونَهُ «شَهَادَةَ الْعَالِمِيَّةِ» كَمَا يَمْنَحُهُمْ حُكَّامُهُمُ الرُّتَبَ الْعِلْمِيَّةَ، وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ مَرَّةً عَلَى شَيْخِنَا الْإِمَامِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ جُنَيْهًا؛ لِيُسَاعِدَهُ فِي امْتِحَانِ شَهَادَةِ الْعَالِمِيَّةِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلِامْتِحَانِ وَلَا أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْأُسْتَاذُ نَفْسَهُ مِنْ الِانْفِعَالِ أَنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَقَالَ: أَتَطْلُبُ مِنِّي فِي هَذِهِ السِّنِّ أَنْ أَغُشَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ لِتُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ بِجَهْلِكَ، بِهَذِهِ الْجُنَيْهَاتِ الْحَقِيرَةِ فِي نَظَرِي الْعَظِيمَةِ فِي نَظَرِكَ، وَأَنَا الَّذِي لَمْ أَتَدَنَّسْ فِي عُمْرِي، حَتَّى وَلَا بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ أَنْقَذْتُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ؟! وَلَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَتَسَاهَلُ فِي هَذَا لَكُنْتُ مِنْ أَوْسَعِ النَّاسِ ثَرْوَةً. أَوْ مَا هَذَا مُؤَدَّاه.{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَيْ فَإِنْ جَاءُوكَ مُتَحَاكِمِينَ إِلَيْكَ فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهِمْ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّخْيِيرِ أَهْوَ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ- وَهِيَ حَدُّ الزِّنَا: هَلْ هُوَ الْجَلْدُ أَوِ الرَّجْمُ، أَوْ دِيَةُ الْقَتِيلِ؛ إِذْ كَانَ بَنُو النَّضِيرِ يَأْخُذُونَ دِيَةً كَامِلَةً عَلَى قَتْلَاهُمْ لِقُوَّتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ يَأْخُذُونَ نِصْفَ دِيَةٍ لِضَعْفِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً- أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ إِذْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ مُعَاهَدِينَ، أَمِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْقَضَايَا مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ الْمُرَجَّحُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ هُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ مُخَيَّرُونَ، يُرَجِّحُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مِنْ زَعْمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْ عُمُومِهَا التَّخْيِيرُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّخْيِيرَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} (5: 49) وَنَقُولُ: لَا يُعْقَلُ أَنْ تَنْزِلَ آيَاتٌ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَيَكُونُ بَعْضُهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْآيَةُ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقِسْطِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.{وَإِنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرَضْتَ، وَلَمْ تَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَإِنْ سَاءَتْهُمُ الْخَيْبَةُ وَفَاتَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنْ خِفَّةِ الْحُكْمِ وَسُهُولَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلتَّخْيِيرِ.{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ؛ أَيِ الْعَدْلِ، لَا بِمَا يَبْغُونَ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَبَيَّنَّا مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 135 مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (ص370- 373 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص226- 227 ج 5 ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُقْسِطُونَ هُمُ الْمُقِيمُونَ لِلْقِسْطِ بِالْحُكْمِ بِهِ أَوِ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ فِي تَفْسِيرِ {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (4: 58) فَيُرَاجَعُ فِي الْمَنَارِ.{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} هَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِبَيَانِ حَالٍ مَنْ أَغْرَبِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَيَتَحَاكَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؛ أَيْ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ فِي قَضِيَّةٍ كَقَضِيَّةِ الزَّانِيَيْنِ، أَوْ قَضِيَّةِ الدِّيَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ، الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُمْ، فِيهَا حُكْمُ اللهِ فِيمَا يُحَكِّمُونَكَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ أَنْ رَضُوا بِهِ، وَآثَرُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ؛ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا؟ أَيْ إِذَا فَكَّرْتَ فِي هَذَا رَأَيْتَهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِمَّنْ جَاءَ فِيهِمْ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} (45: 23).فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ بِشَرْعٍ لَا يَرْغَبُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا آمَنَ بِأَنَّ مَا رَغِبَ إِلَيْهِ شَرْعٌ مِنَ اللهِ أَيْضًا أَيَّدَ بِهِ الْأَوَّلَ، أَوْ نَسَخَهُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ عِبَادِهِ. وَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِهَا وَاتِّبَاعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ، وَجَاءُوكَ يَطْلُبُونَ حُكْمَكَ رَجَاءَ أَنْ يُوَافِقَ هَوَاهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وَيُعْرِضُونَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ. فَمَا هُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَلَا بِمَنْ أَنْزَلَ عَلَى مُوسَى التَّوْرَاةَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَقَدْ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَقَدْ يَظُنُّونَ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِ الْإِيمَانِ يَقِينًا فِي الْقَلْبِ، يَتْبَعُهُ الْإِذْعَانُ بِالْفِعْلِ، وَيُتَرْجِمُ عَنْهُ اللِّسَانُ بِالْقَوْلِ، وَلَكِنَّ اللِّسَانَ قَدْ يَكْذِبُ عَنْ عِلْمٍ وَعَنْ جَهْلٍ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَذْعَنَ، وَمَنْ أَذْعَنَ عَمِلَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْإِذْعَانِيُّ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْإِرَادَةِ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ الْمُصَرِّفَةُ لِلْجَوَارِحِ فِي الْأَعْمَالِ.أَمَّا حُكْمُ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الزُّنَاةِ، قَالَ فِي الْفَصْلِ 22 سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ عَذْرَاءَ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا تُرْجَمُ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا: (22 إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، الرَّجُلُ الْمُضْطَجِعُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ 23 إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَارْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا، الْفَتَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَصْرُخْ فِي الْمَدِينَةِ، وَالرَّجُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ) ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامًا أُخْرَى فِي الزِّنَا، مِنْهَا قَتْلُ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ، وَمِنْهَا دَفْعُ غَرَامَةٍ، وَالتَّزْوِيجُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا.وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى كَوْنِ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْيَهُودِ، هِيَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى، لَمْ يَعْرِضْ لَهَا تَغْيِيرٌ وَلَا تَحْرِيفٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَأُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَرُدُّونَ مَا يُخَالِفُهَا جَدَلًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، فَالْكِتَابُ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ؛ أَيِ الشَّرِيعَةُ، وَأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَبَيَّنَ لَنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؛ إِذْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ وَأَضَاعُوهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَمَّا خَرَجَتْ أُمَّةُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، وَعَرَفُوا تَارِيخَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ؛ كَالْبَابِلِيِّينَ، ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ إِذْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ فَقَدُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوهَا، وَإِنَّمَا كَتَبَ لَهُمْ بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ مَا حَفِظُوهُ مِنْهَا، مَمْزُوجًا بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُثْبِتُ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمِنْهُ تَفْسِيرُ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَفْسِيرُ الْآيَاتِ 13- 15 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. اهـ.
|